« الخطبة »
2018-05-21
فاطمة (ع) اُمّ الشّفاعة
2018-05-21

 

10-فاطمة (ع) أمّ المصیبة

و حینما یُکنّی رسول ﷲ (ص) فاطمة (ع) بأنّها أمّ أبیها یعني أنّها بفقده تکون أمّ مصیبته ، فهي الـمُصابة به قبل غیرها حیث هي بضعته و روحه الّذي بین جنبیه و فلذة کبده ، و هو أبوها الحنون الشّفیق و مربّیها و معلّمها و نبیّها .

و هو بالأحریٰ عزّها و فخرها و سؤددها و سعادتها وکلّ شيءٍ لها .

و بفقده فقدت کلّ ذلك من دون مبالغة .

فیا للمصیبة العظمیٰ و الفادحة الکبریٰ و الثّلمة الجسیمة و الفاجعة المؤلمة و الحادثة الموجعة و النّازلة المذهلة و الکارثة المحزنة !!

فما أن توفّي رسول ﷲ (ص) و ارتحل من عالم الفنآء إلیٰ عالم البقآء و من جوار المجتمع المتأخّر في جزیرة العرب إلیٰ جوار ﷲ في الملکوت الأعلیٰ فطارت روحه القدسیّة راضیةً مرضیّةً من عالم المادّة إلیٰ حضیرة القدس مٌسرعةً إلیٰ لقآء ﷲ في مقام قاب قوسین أو أدنیٰ فعرجت روحه الطّاهرة إلیه کما عرج بجسمه لیلة المعراج و کما أخیره تعالیٰ قائلاً إنّك میّتً و إنّهم – میّتون – فبشّره بلقائه و نجاته من عالم الدّنیا الدّنیّة إلیٰ عالم البقآء السّر مدیّة فالتقیٰ حبیب ﷲ بالله جبیبه في مقام لا یسمع ملكٌ مقرّب و لا نبيٌّ مرسل غیره بعد أن أدّیٰ ما علیه من الرّساله و بلّغ ما اُنزل إلیه في الولایة فلبّیٰ دعوة ربّه و رأسه المبارك في حجر عليٍّ وصیّه و فاطمة تنظر إلیه و تبکي حتّیٰ تبدّلت أفراحُها من تلك اللّحظة إلیٰ أحزان و سرورها إلیٰ غمومٍ و هموم و إبتسامتها إلیٰ بکاءٍ و عویلٍ فأخذت ترثي أباها و تنتحب لیل نهار، ثمّ توالت علیها المصائب و الأحزان و الهموم و انعموم إذ أنّ عصابة السّقیفة إجتمعت في السّقیفة و النّبيّ (ص) بعد لم یُدفن لغصب الخلافة من عليّ فبدل أن تُعزّي هذه العصابة فاطمة الزّهرآء (ع) بهذه المصیبة العظمیٰ و تُشاطر علیّاً العزآء و تُشارکه في تجهیز النّبيّ (ص) تآمرت ضدّه فزادت المصیبة مصیبةً اُخریٰ فزادت في الطّین بلّةً و في الطنبور نغمة .

فبدل أن تُعالج جُرح أهل البیت علیهم السّلام و تشاطرهم العزآء و تضع البلسم علیٰ الجراح رشّت الملح علیٰ الجُرح الوارد علیٰ قلب فاطمة (ع) بوفاة والدها العظیم (ص) و لم ینشف مآء غسل رسول ﷲ (ص) حتّیٰ إغتصبوا من فاطمة (ع) نحلة أبیها (ص) فدك ثمّ منعوها إرثها المشروع ثمّ منعوها سهم ذوي القربیٰ فحرموها حقوقها جمیعاً ثمّ هجموا علیٰ دارها فأحرقوه ثمّ حصروها بین الحائط و الباب فکسروا ضلعها و أسقطوا جنینها المحسن (ع) فقتلوه ثمّ لطموها علیٰ وجهها و ضربوها علیٰ یدها بالسّیاط ، کلّ ذلك بدل أنیُعزّوها بمصیبة فقد والدها العظیم النّبيّ (ص) و یُشاطروها العزآء و بدل أن یُعطوها أجر المودّة في القربیٰ آذوها فاشتدّت المصیبة علیها کثیراً حتّیٰ أن أصبحت ناحلة الجسم مُنهَدّة القُویٰ إلیٰ أن قضت نحبها و استشهدت بعد أبیها بخمسة و سبعین یوماً فکانت سریعة اللّحاق به ، فاستمرّت تبکي علیه و ترثیه و تشکو إلیه و تندبه حتّیٰ وفاتها فلم تهدأ أبداً ، فرویٰ الفریقان العامّة و الشّیعة رثاءها لوالدها و بُکاءها المستمرّ علیه و من ذلك ما رواه الحاکم النّیسابوري بأسناده عن موسیٰ بن جعفر محمّد بن عليّ بن الحسین (ع) عن أبیه عن عليٍّ (ع) :

« إنّ فاطمة لـمّا تُوفّي رسول ﷲ کانت تقول :
وا أبتاه من ربّه ما أدناه ، وا أبتاه جنان الخلد مأواه وا أبتاه ربّه یکرمه إذا أتاه ، وا أبتاه ألرّبّ و رسوله یُسلّم علیه حین یلقاه » .

و في روایة أحمد عن أنس :

«یا أبتاه من ربّه ما أدناه ، یا أبتاه الیٰ جبریل أنعاه ، یا أبتاه جنّة الفردوس مأواه ألخ … » .

و رویٰ صاحب الدّر المنثور (ص:360) أنّها کانت ترثي أباها بما یلي :

« إغبرّ آفاق السّمآء و کوّرت

شمس النّهار و أظلم العصرانِ

و الأرض من بعد النّبيّ کئیبةٌ

أسفاً علیه کثیرة الأحزانِ

فلیُبکه شرق البلاد و غربها

و لتبکه مُضرٌ وکلّ یماني

و لیبکه الطّوْد الأشمّ و کعبة

و البیت ذو الأستار و الأرکان

یا خاتم الرّسل المبارك صفوه

صلّیٰ علیك منزّل القرآن »

و رویٰ الخوارزمي :
لـمّا دُفن رسول ﷲ (ص) رجعت فاطمة إلیٰ بیتها و اجتمع الیها نساؤها فقالت :

«إنّا لله و إنّا إلیه راجعون ، إنقطع عنّا و ﷲ خبر السّمآء ».

ثمّ أنشأت الأبیات السّالفة بإضافة هذا البیت :

« نفسي فداؤك ما لرأسك مائلاً

ما وسدّوك وسادة الوسنان »

و رویٰ إیضاً أنّها وقفت علیٰ قبره (ص) فقالت :

« ما ضرّ من قد شمٌ تربة أحمدٍ

أن لا یشمّ مدیٰ الزّمان غوالیاً

صبّت عليّ مصائبٌ لو أنّها

صُبّت علیٰ الأیّام صرن لیالیاً »

و لٰکنّ الخوارزمي لم یذکر شیئاً عن هذه المصائب الّتي صبّوها علیها أعداؤها و هي بکثرتها و شدّتها و قسوتها لو أنّها کانت تُصبّ علیٰ الأیّام کانت تُحلکها فتکون سودآء کاللّیالي المظلمة .

و حقّاً أنّهم بهذه المصائب الّتي صبّوها علیها أظلموا الدّنیا في عینیها ثمّ سوّدوا صفحات التّاریخ فهي کاللّیل سواداً و لا بدّ هنا أن یقوم ولدها المهديّ فیثأر لها .

و هنا أریٰ من اللاّزم أن أرفع السّتار عن سرٍّ جآء في کتاب الکافي للشّیخ الکلیني (ر) یرویه بسندٍ صحیحٍ عن الإمام الصّادق (ع) یقول بأنّ جبرئیل بعد أن قالت فاطمة : «إنقطع عنّا و ﷲ خبر السّمآء» ، نزل إلیها یؤنسها ، و إلیك الرّوایة : محمّد بن یحییٰ عن أحمد بن محمّد عن ابن محبوب عن إبن رئاب عن أبي عبیدة قال : سأل أباعبدﷲ (ع) بعض أصحابنا عن الجفر فقال :
« هو جلد ثورٍ مملوءٌ علماً ».

قال له : فالجامعة ؟، قال (ع) : « تلك صحیفةٌ طولها سبعون ذراعاً في عرض الأدیم مثل فخذ الفالج[1]فیها کلّ ما یحتاج النّاس إلیه ، و لیس من قضیّةٍ إلاّ و هي فیها حتّیٰ إرش الخدش ».

قال فمصحف فاطمة (ع) ؟

فسکت الإمام (ع) ثمّ قال : « إنّکم لتبحثون عمّا تریدون و عمّا لا تریدون ، إنّ فاطمة مکثت بعد رسول ﷲ (ص) خمسة و سبعین یوماً و کان دخلها حُزنٌ شدیدٌ علیٰ أبیها و کان جبرئیل علیه السّلام یأتیها فیُحسن عزاءها علیٰ أبیها و یُطیّب نفسها و یُخبرها عن أبیها و مکانه و یُخبرها بما یکون بعدها في ذرّیّتها و کان عليٌّ یکتب ذلك فهذا مصحف فاطمة (ع) ».

فلنرجع إلیٰ الکلام عن رثاء فاطمة لأبیها رسول الله (ص) .

فقد رویٰ صاحب الإحتجاج (ر) (ج:1 ص:92) : أنّ فاطمة (ع) دخلت المسجد و طافت بقبر أبیها و هي تخاطبه و تقول :

قد کان بعدك أنباءٌ و هنبثةٌ

لو کنت شاهدها تکثر الخطب

إنّا فقدناك فقد الأرض و ابلها

و اختلَّ قومك فاشهدهم و لا تغب

قد کان جبریل بالایات یُؤنسنا

فغاب عنّا فکلّ الخیر محتجب

و کنت بدراً و نوراً یُستضاء به

علیك ینزل من ذي الغزّة الکتب

تجهّمتنا رجالٌ و استخفّ بنا

إذ غبت عنّا فنحن الیوم نغتصب

فسوف نبکیك ما عشنا و ما بقیت

منّا العیون بتهمالٍ لها سکب

و من الواضح إنّ ما تبثّه الزّهراء (ع) من شکویٰ إلیٰ أبیها رسول ﷲ (ص) هو دلیلٌ علیٰ زیادة مصائبٍ علیٰ مصیبتها بفقده فهي حقّاً – اُمّ المصیبة .

و حقّاً أنّ مصیبة إنقلاب النّاس علیٰ أعقابهم أشدّ علیٰ فاطمة (ع) من رحلتها عنهم و فقدانها إذ فرحت حینما بشّرها أبوها بأنّها سریعة اللّحاق به و لکنّها بکیت حینما أخبرها بانقلاب النّاس علیٰ أعقابهم ، لهذا نّسمعها تخاطبه و تقول : و اختلّ قومك فاشهدهم و لا تغب . و قولها :

تجهّمتنا رجالٌ و استخفّ بنا

إذ غبت عنّا فنحن الیوم نغتصب

فساعد ﷲ قلبكِ یا اُمّ المصیبة و لك ﷲ یا فاطمة (ع) المظلومة فیحقٌ لك أن تبکین لیل نهار ، فإنّكِ قضیت نحبكِ بعد أبیكِ سریعاً صابرةً محتسبةً باکیة العین ناحلة الجسم منهدّة الرّکن مکسورة الضّلع مغصوبة الإرث ممنوعة النّحلة لذلك فیحقّ لنا أن نبکیكِ کما کنتِ تبکین أباكِ !!!

و هل لاقت بنت نبيٍّ من اُمّته ما لاقیتِ یا حبیبة ﷲ ؟

ألم یروا أنّه (ص) کان یُقبّل منكِ صدركِ و یدكِ فکیف ضربوا علیٰ یدكِ و کسروا ضلعكِ ؟!

و أیمُ ﷲ لقد هتکوا حجاب ﷲ بذلك فقد رویٰ المجلسيّ عن طرف السّیّد و هو عن الشّیخ عیسیٰ بن مستفاد الضّریر عن موسیٰ بن جعفر (ع) قال في حدیثٍ طویل :

« لـمّا حضر رسول ﷲ (ص) الوفاة دعیٰ الأنصار و قال فیما قال لهم :
ألا فاسمعوا و من حضر ؛ ألا إنّ فاطمة بابُها بابي و بیتها بیتي فمن هتکه فقد هتك حجاب ﷲ».

قال عیسیٰ : فبکیٰ أبوالحسن علیه السّلام – موسیٰ بن جعفر – طویلاً و قطع بقیّة کلامه و قال :
« هُتك و ﷲ حجاب ﷲ ، هُتك و ﷲ حجاب ﷲ ، هٌتك و ﷲ حجاب ﷲ ، یا اُمّاه … ».

و قد صوّرت فاطمة المظلومة مصائبها حینما وقفت علیٰ قبر أبیها فقالت باکیة :

قل للمغیّب تحت أطباق الثّریٰ

إن کنت تسمع صرختي و ندائیاً

صبّت عليّ مصائبُ لو أنّها

صبّت علیٰ الأیّام صرن لیالیاً

قد کنتُ ذات حماً بظلّ محمّدٍ

لا أختشیٰ ضیماً و کان حماً لیا

فالیوم أخشع للذّلیل و أتّقي

ضیمي و أدفع ظالمي بردائیاً

فإذا بکت قمریّة في لیلها

شجناً علیٰ غضنٍ بکیتُ صباحیاً

فلأجعلنّ الحزن بعدك مؤنتي

و لأجعلنّ الدّمع فیك و شاحیاً

ماذا علیٰ من شمّ تربة أحمدٍ

ألاّٰ یشمّ مدیٰ الزّمان غوالیاً

و ذکر المؤرّخون إیضاً أنّها خاطبته بهذه الأبیات و قالت :

قد کنت لي جبلاً ألوذ بظلّه

فالیوم تُسلمني لأجرٍ ضاحي

قد کنت جار حماً ما عشت لي أبداً

و الیوم بعدك من یریش جناحي

و أغضّ من طرفي و أعلم أنّه

قد مات خیر فوارسي و سلاحي

حضرت المنیّة فسلمني العزا

و تمکّنت ریب المنون جراحي

و رووا أیضاً أنّها خاطبته راثیةً بهذه الأبیات فقالت :

قل صبري و بان عنّي عزائي

بعد فقدي لسیّد الأنبیاء

یا عیون اسکبي الدّموع غزاراً

ویكِ لا تبخلي بفیض الماء

یا رسول الإله یا خیرة ﷲ

و کهف الأیتام والضّعفاء

قد بکتك الجبال و الوحش و الطّی

و الأرض ثمّ بعد السّماء

و بکاك الحجون و الرّکن و البیت

و المشعر الحرام و البطحاء

و بکاك الإسلام إذ صار فيالنّاس غریباً من سائر الغُرباء

لو تریٰ المنبر الّذي کنت تعلوه

علاه الظُّلاّٰم بعد الضّیاء

و لقد صوّر لنا بعض المؤرّخین مصائب  فاطمة (ع) من محاورتها لأنس بن مالك حینما رجع مع عليٍّ و العّباس و الهاشمیین و سلمان و أبي ذر و المقداد و عمّار من دفن رسول ﷲ (ص) خاطبة قائلة :

أنس بن مالك ؟

فأجابها : لبّیك یا إبنة رسول ﷲ (ص)

فقالت له بلوعةٍ و حُرقةٍ و أسیٰ :
کیف أمکنك یا أنس قلبك أن تُسلم للأرض جُثّة رسول ﷲ ؟؟

فحار أنس جواباً ، و ما یجیب البضعة المفجوعة بوالدها العظیم ؟

فلیس له إلاّٰ أن یقول :

إنّا لله و أنّا إلیه راجعون ولا حول و لا قوّة إلاّٰ بالله العليّ العظیم . آجركِ ﷲ .

و أمّا سرّ بکائها فلیس هو نتیجة إنفعالٍ عاطفيٍّ فحسب إذ لیست الزّهراء کسائر النّساء تتّخذ من دموعها وسیلةً عاطفیّة لتهیّج عواطف زوجها و جلب محبّته و حنانه کما تفعله النّسوة مع أزواجهنّ کی یُنفّذوا مطالیبهنّ و یُحقّقوا آمالهنّ ، کلاّٰ و ألف کلاّٰ .

فلا عليٌّ قصّر تجاهها قید أنملةٍ و لا الزّهراء بالّتي تروم أن تُکلّفه فوق طاقته فتجلّ فاطمة الصّدّیقة عن مثل هذه الأسالیب الماکرة الّتي تتّخذها غیرها من النّساء ؛ فالزّهراء مستثناة عن سائر النّساء بعصمتها دونهنّ .

إذاً فما الّذي دعیٰ الزّهراء سیّدة النّساء و الحوراء أن تضجّ بالبکاء صباحاً و مساء ؟؟

فالحقیقة الّتي لا بدّ أن أکشف عنها و هي من الأسرار هي أنّ الزّهراء (ع) إتّخذت الیکاء العلني وسیلةً لإدانة الجهاز الحاکم و الحزب الـمُعارض لال محمّد (ص) و وسیلةً لإثبات مظلومیّتها و مقهوریّتها و إعلاناً عن إغتصاب حقّها و إرثها و معارضةً صریحةً للمغتصبین و دفاعاً عن عليٍّ أمیرالمؤمنین (ع) إمامها و ولیّها ، فکان بکاؤها فداها أبي و اُمّي جهادها السّیاسي في ظروفٍ کمّت الأفواه فیها بقوّة الحدید و النّار تارةً و بالمال و الطّمع تارةً اُخریٰ فکلّت الألسن عن قول الحقّ و الدّفاع عنه و خرست عن الأمر بالمعروف و النّهی عن المنکر و دفع الظّلم عنها و عن عليٍّ فأخذت فاطمة (ع) تتکلّم مع الجماهیر بلسان الرّثاء و العزاء لعلّهم یهتدون !!!

و في جوٍّ خطیرٍ إتّخّذ فیه أعداؤها شعار : الملك لمن غلب ! ، اُسلوباً للعمل و شعار : الحقّ مع الأقویٰ ، سیاسةً للسّلطة و شعار : ألغایة تبرّر الوسیلة ، منهاجاً للحکم فلامناص لها عن البکاء و إعلان المعارضة السّیاسیّة به و قد اتّخذ عليٌّ ألصّبر و السّکوت سیاسة ریثما تهدأ العواصف المدمّرة حفاظاً علیٰ بیضة الإسلام و الـمُهدّدة من الغرب و الشّرق و الرّوم و المجوس کما یقول هو (ع) : « فرأیتُ أنّ الصّبر علیٰ هذا أحجیٰ فصبرتُ و في العین قذیٰ و في الحلق شجیٰ أر تُراثي نهباً و … إلخ ».

فهکذا إتّخذت البضعة المظلومة البکاء واجباً جهادیّاً شرعیّاً لنفسها فیروی المؤرّخون أنّها في الأیّام الأولیٰ من فقد والدها الرّاحل کانت تخرج إلیٰ قبر أبیها و هي تعثر في أذیالها و لا تبصر طریقها من کثرة عبراتها حتّیٰ إذا دنت من القبر الشّریف اُغمی علیها فتُبادر النّساء إلیها فینضحن الماء علیها حتّیٰ تُفیق و بعد أن أفاقت تُنادي :

« یا أبتاه رفعت قوّتي و خانني جلدي و شمت بي عدوّي و الکمد قاتلي ، یا أبتاه منبرك بعدك موحش و محرابك خالٍ من مناجاتك و قبرك فرحُ بمواراتك ، فوا أسفاه علیك إلیٰ أن أقدم علیك » .

ثمّ تزفر زفرةً و تئنّ أنّةً تکاد روحها أن تخرج معها .

ثمّ ترجع إلیٰ دارها و تستمرّ بالبکاء و العویل لیلها و نهارها فلاترقأ لها دمعة و لا تهدأ لها زفرة و لا تسکن لها أنّة .

فتبثّ بالآهات و الحسرات فتُعلن ظلامتها بعلها فتُدین بذلك الظّالمین و المعتدین و الغاصبین الجائرین .

عند ذلك تشعر الزّمرة الظّالمة بأنه لا بدّ من إسکاتها و إخماد صوتها قبل أن توقظ ضمائر المؤمنین و تُحرّك عواطف المسلمین ضدّهم .

فأرسلوا عدّةً من سفهاء القوم فأقبلوا إلیٰ أمیرالمؤمنین عليّ بن أبي طالب (ع) قائلین : یا أبالحسن إنّ فاطمة تبکي اللّیل و النّهار فلا أحد منّا یهنّأ بالنّوم في اللّیل و إنّا نطلب أن تسألها إمّا تبکي لیلاً أو نهاراً !!!

و هذا القول منهم کان من دون حیاءٍ أو خجل أو إعتذار !!

فأجاب أمیر المؤمنین هؤلاء المغفّلین بقوله : حبّاً و کرامةً .

إذ ما علیٰ الرّسول إلاّٰ البلاغ و إن کان یعلم عليٌ و هو سیّد العرب أنّ هؤلاء الشّرذمة قد أرسلتها الزّمرة الطّاغیة و الحزب المعادي لإسکات فاطمة المظلومة و إخفات صوتها الهادر و دموعها الکاسحة ، لکنّة ماذا یقول لهم ؟؟

أیقول لهم : إنّ البکاء علی خاتم الأنبیاء لا یجوز منعه ؟
أو یقول لهم : إنّ منع البنت عن البکاء علیٰ أبیها یُنافي العاطفة الإنسانیّة ؟

أو یقول لهم : إنّها زیادة علیٰ مصابها الجلل ممنوعة الإرث ؟

أو یقول لهم : لیس بالإمکان إسکات الزّهراء عن هذا البکاء ؟

کلّ ذلك کان صحیحاً لو کان یجیب به عليٌّ هؤلاء السّفهاء الأغبیاء لو لاٰ أنّه في قرارة نفسه کان یخشیٰ علیٰحلیلته أن تنهدّ قواها تذوب إن هي استمّت بالبکاء علیٰ هذه الحالة ! فکان یرید لها بعض الإستقرار .

لذلك فقد تقدّم إلیها لیُبلّغها ما قالوا فرأها مُجهشةً بالبکاء فسلّم علیها فردّت علیه السّلام و سکتت هنیئة تستمع إلیه فقال لها :

« یا بنت رسول ﷲ (ص) إنّ شیوخ المدینة یسألون أن أسألكِ إمّا أن تبکین لیلاً و إمّا نهاراً ».

فأجابته قائلةً :

«یا أبالحسن ما أقلّ مکوثي بینهم و ما أقرب مغیبي من بین أظهرهم فو ﷲ ما أسکت لیلاً  و لا نهاراً أو ألحق بأبي رسول ﷲ (ص) ».

فعرف الإمام مدیٰ عزمها الأکید علیٰ الإستمرار بالجهاد بهذا الشّکل و معارضة الحزب الحاکم الّذي یهدف إلیٰ إسکات صوت المعارضة و مصادرة الحرّیّات حتّیٰ حرّیّة البکاء علیٰ خاتم الأنبیاء .

فما هو موفق عليٍّ حینئذ ؟؟

فإنّ القوم أرسلوا عدّة من الشّیوخ یُطالبون بحقّ النّوم و ذلك هو کلام حقٌ یُراد به الباطل فما عساه أن یفعل ؟؟ فقد تذرّعوا بحجّة ماکرة و طبیعيٌّ أنّ طبیعة اولئك الهمج الرّعاع کان یتطلّب الأکل و النّوم التّرف و کان طبیعة الزّهراء قیام اللّیل بالعبادة و المناجاة و بدیهيٌّ أنّ فاطمة (ع) ما کانت لدیها الوسائل الحدیثة من المکبّرات الصّوتیّة و الإذاعیّة و علیٰ فرض علوّ صوتها حین البکاء کان صوتها لا یتجاوز بعض البیوت المجاورة فقط فما معنیٰ لإدّعاء اولئك الحمقیٰ بأنّها تسلب نومهم بالّلیل و تمنعهم من المنام فالحقیقة هي أنّهم کانوا ینامون بکلّ راحة و إستقرار و یهنأون بالنّوم حتّی الصّباح و یرقدون مرتاحین لتسلّطهم علیٰ زمام الاُمور و تسنّمهم دفّة الحکم فهم لیسوا من أهل التّهجّد و العبادة و القیام لیلاً بالدّعاء و المناجاة کعليٍّ و الزّهراء (ع) و لوکانوا لما طالبوهما بالنّوم فلم یکونوا من المستغفرین بالأسحار بل کانوا لا یهتمّون سویٰ بالنّوم و الأکل کالبهائم همّها علفها و منامها .

فأولئك کانوا من الّذین إنقلبوا علیٰ أعقابهم بعد رسول ﷲ (ص) فهم في غفلةٍ ساهون و طول حیاتهم نائمون و لم یفیقوا أبداً فقد عشوا عن ذکر الرّحمن و من یعش عن ذکر الّرحمن نقیّض له شیطاناً فهو له قرین ، فکانوا نیاماً و لم ینتبهوا حتّیٰ الموت و لو کانوا یقضین واعین لما قدّموا إقتراحاً بإسکات الزّهراء فما عسیٰ أن یفعله أمیرالمؤمنین بعد أن لم تلبّي الزّهراء طلبهم اللاّإنساني ؟ فهو یخشیٰ أن یتّهموها بسلب الرّاحة و الإستقرار من المسلمین .

لهذا فإنّه یریٰ من المصلحة أن یحلّ هذه المشکلة بنحوٍ یتضمّن سدّ أفواه المغرضین و في نفس الوقت لا یمنع الزّهرآء عن بکآءها المشروع بأن یبنیٰ لها بیتاً في البقیع و یُسمّیها بیت الأحزان .

فکانت الصّدّیقة المظلومة فاطمة الزّهرآء (ع) حینما تصبح تقدّم أطفالها أمامها فتأتي إلیٰ بیت الأحزان في البقیع فلا تزال تبکي فیه و تعول ترثی أباها و تندبه و تبثّ شکواها إلیه بشکلٍ و آخر حتّیٰ یُقبل اللّیل فیذهب الإمام إلیها فیأتي بها إلیٰ داره .

و هذه السّیاسه الحکیمة من عليٍّ لم تکن حلاًّ للمشکلة فحسب بل قطعاً للحجج الواهیة و المعاذیر المغرضة و الدّعایات المعادیة و ردّاً للکید .

ثمّ إنّه بعمله هذا بنیٰ أثراً تاریخیّاً خالداً في التّاریخ تذکره الأجیال جیلاً بعد جیل وهو أثرّ یُدین أعدآء و یُسجل إسمهم في عداد الظّالمین الجائرین و العتاة الطّغاة کفرعون و نمرود و من شاکلهم.

فهذا ما حصل فعلاً و ما شاهدناه في طول التّاریخ الإسلامي و ما نشاهده فعلاً الیوم و في عصرنا هذا ، فما من مسلم یزور المدینة و یتذکّر أیّام صدر الإسلام إلاّ و یذکر بیت أحزان الزّهرآء (ع) و یتسائل لماذا بیت الأحزان ؟ و لماذا منعوا الزّهرآء (ع) من البکآء ؟ و لماذا منعوا إرث الزّهرآء (ع) ؟ و لماذا غصبوا حقّ الزّهرآء (ع) ؟

فهلاّ ترکوها تبکي في دارها ، و هلاّ ردّوا حقّها و أرضوها حتّیٰ تسکت ؟

فبیت الأحزان قد خَلَّتَ صوت الزّهرآء (ع) بالتّاریخ الإسلامي ، و بیت الأحزان قد ضمن إستمرار معارضتها للظّلم مع الأجیال .

فکان بیت الأحزان دکّتها السّیاسیة لإعلان المعارضة و مقرّها الأساسي في مواجهة الطّغاة فکان مجمع النّسوة الـمؤمنات .

فکلٌّ من أرادت أن نزور فاطمة و تعزّیها و تسلیها من النّسآء کان علیها أن تصل بیت الأحزان لتلتقي بالقدّیسة المظلومة المغصوبة و تلتقي بفاطمي أمّ المصیبة فترجع إلیٰ بیت زوجها ثمّ تُعلن إستیآءها من أعداء الزّهرآء وظالمیها و غاصبي حقوقها فتروي لزوجها و أولادها کلّ ما شاهدتها وسمعتها من الزّهرآء في بیت الأحزان فکانت تطلب منهم أن یضمّوا أصواتهم إلیٰ صوت الزّهرآء و ینهضوا للدّفاع عن بنت رسول ﷲ (ص) خاتم الأنبیآء و بضعته المظلومة المضطهدة .

فکان بیت الأحزان خیر مدرسةٍ للنّسآء تلقي فیها فاطمة الزّهرآء دروس انّضال علیهنّ و تعلّمهنّ دروس الکفاح ضدّ  الزّمرة الطّاغیة .

فسلام ﷲ علیك یا أمیرالمؤمنین (ع) إنّهم أرادوا إخماد صوت الصّدّیقة في مکانها و أنت بعملك هذا جعلت أصدآء صوتها تنتقل إلیٰ أقصیٰ البلاد ثمّ أرادوا حصر صوت المعارضة في زمانهم فجعلته خالدار مع التّاریخ .

و من نتائج بنآء بیت الأحزان کانت إجتماع نسآء المهاجرین و الأنصار لعیادتها حینما أصبحت طریحة الفراش من شدّة الألم و من کسر ضلعها و إسقاط جنینها ، فما کان من الصّدّیقة الطّاهرة سویٰ أن تغتنم الفرصة لتُیقّظ ضمائر الجماهیر المغفّلة و تجذبهم لصالح بعلها أمیرالمؤمنین (ع) .

فخطب علیهنّ خطبتها الملتهبة الشهیرة الّتي یرویها العامّة و الشّیعة حیث قالت بعد أن سألوا کیف أصبحتِ یا بنت الرسول ﷲ (ص) ؟

قالت : « ألحمد لله ربّ العالمین و صلّیٰﷲ علیٰ أبي رسول ﷲ محمّدٍ و آله .

أصبحتُ و ﷲ عائفةً لدنیا کنّ ، قالیةً لرجالکنّ ، لفظتهم بعد أن عجمتهم و شنأتهم بعد أن سبرتهم .

فقُبحاً لفلول الحسد و اللّعب بعد جدّ و قرع الصّفاة و صدع القناة و خطل الاراء و زلل الأهوآء .

لبِئسَیما قدّمت لهم أنفسهم أن سخط ﷲ علیهم و في العذاب هم الخالدون .

لا جرَمَ و الله لقد قلّدتهم ربقتها و حمّلتهم أوبقتها و شنّت علیهم غارتها .

فجّدعاً و عُقراً و بُعداً للقوم الظّالمین !! و یحهم أنّیٰ زحزحوها عن رواسي الرّسالة و قواعد النّبوّة و الدّلالة ؟ و مهبط الرّوح الأمین و الطّبین بأمور الدّنیا و الدّین ؟

ألا ذلك هو الخسران المبین !!

و ما الّذي نقموا من أبي الحسن ؟؟

نقموا و ﷲ نکیر سیفه و قلّة مبالاته بحتفه و شدّة و طأته و نکال وقعته و تنمّره في ذات ﷲ عزّوجلّ .

و تا ﷲ لو مالوا عن المحجّة اللاّئحة و زالوا عن قبول الحجّة الواضعةٌ لردّهم إلیها و حملهم علیها .

و تا الله لو تکافئوا عن زمامٍ نبذه إلیه رسول ﷲ (ص) لساربهم سیراً سجحاً لا یکلم حشاشه و لا یکلّ سائره و لا یمیل راکبة .

و لأوردهم منها نمیراً صافیاً روّیاً فضفاضاً تطفح ضِفَّناه و لا یترنّق جانباه و لأصدرهم بطاناً و نصح لهم سرّاً و إعلاناً و لم یکن یحکی من الغنیٰ بطائل و لا یحطیٰ من الدّنیا بنائل غیر ريّ النّاهل و شبعة الکافل و لبان لهم الزّاهد من الرّاغب و الصّادق من الکاذب .

و لو أنّ أهل القریٰ آمنوا و اتّقوا لفتحنا علیهم برکات من السّمآء و الأرض و لکنّ کذّبوا فأخذناهم بما کانوا یکسبون .

و الّذین ظلموا من هؤلاء سیُصیبهم سیئاتُ ما کسبوا و ما هم بمعجزین .

ألا هلمّ فاستمع : و ما عشت أراك الدّهر عجباً و إن تعجب فعجبٌ قولهم ،

لیت شعري ! إلیٰ أيّ لجأٍ لجأوا و إلیٰ أيّ سنادٍ إستندوا ؟؟

و علیٰ أیّ عمادٍ إعتمدوا ؟ و بأيّ عروةٍ تمسّکوا ؟؟ و علیٰ أيّ ذرّیّة قدّموا و احتنکوا ؟ لبئس المولیٰ و لبئس العشیر و بئس للظّالمین بدلاً .

إستبدلوا و ﷲ الذّنابیٰ بالقوادم و العجز بالکاهل .

فرغماً لمعاطس قومٍ یحسبون أنّهم یُحسنون صنعاً ، ألا إنّهم هم المفسدون و لکنّ لا یشعرون .

و یحهم أفمن یهدي إلیٰ الحقّ أحقّ أن یُتّبع أم من لا یهدّي إلاّ أن یهدیٰ فما لکم کیف تحکمون ؟

أمّا لعمري لقد لقحت فنظرة ریثما تنتج ثمّ احتلبوا ملء القعب دماً عبیطاً و ذعافاً مبیداً هنالك یخسر المبطلون و یعرف التّالون غبّ ما أسّس الأوّلون .

ثمّ طیّبوا عن دنیاکم نفساً و اطمئنّوا للفتنة جأشا و أبشروا بسیف صارمٍ و سطوةٍ معتلّ غاشمٍ و بهرج شاملٍ دائمٍ و استبدادٍ من الظّالمین یدع فیئکم زهیداً و جمعکم حصیداً .

فیا حسرةً لکم و أنّیٰ بکم و قد عمّیت علیکم أنُلزمکموها و أنتم لها کارهون ؟؟

﴿  وسیعلم الّذین ظلموا آل محمّدٍ أیّ منقلب ٍینقلبون ﴾

قال الرّواي سعید بن غفلة :

فأعادت النّسآء قولها علیٰ رجالهنّ .

فجآء قومٍ من المهاجرین و الأنصار معتذرین و قالوا :

یا سیّدة النّسآء لو کان أبوالحسن ذکر لنا هذا الأمر من قبل أن یبرم العهد و یُحکم العقد لما عدلنا عنه إلیٰ غیره .

فقالت (ع) : « إلیکم عنّي فلا عذر بعد تحذیرکم و لا أمر بعد تقصیرکم . »

فهکذا نجحت الزّهرآء فاطمة (ع) في اُسلوب معارضتها السّیاسیّة فکان لها الغلبة و الفوز علیٰ مناوئیها فأدانتهم و کشف القناع عن دعایاتهم المزیّفة ، فانتبه الکثیرون نتیجة ذلك من سباتهم العمیق فألهبت الصّدور و هیّجت النّفوس ضدّ الظالمین الغاصبین .

و کان لذلك الأثر البالغ في إرجاع الأمر إلیٰ عليٍّ أمیرالمؤمنین بعد فشل عثمان في الحکم و مقتله بأیدي المسلمین .

و لو لا ذلك لما بایع النّاس علیّاً علیٰ الخلافة مطلقاً ، إذ أنّ الّذین أزاحوه عنها قصدوا حرمانه منها ألیٰ الأبد !

لکنّ الزّهرآء الصّدّیقة (ع) ردّت المیاه إلیٰ مجاریها بجهادها المستمیت فأقبل النّاس إلیٰ عليّ بعد مقتل عثمان فقلّدوه الخلافة بعد أن کان کارهاً لها و غیر راغبٍ فیها !

فکانت الخلافة في نظر عليٍّ تساویٰ ثمن نعلیه الّذي أراه لابن عبّاس ثمّ قال :

« و ﷲ إنّ إمرتکم هذه أهون علیّ منها إلاّ أن اُقیم حقّاً أو أدحض باطلاً.»

فرجوع النّاس إلیٰ عليٍّ بعد أن خذلوه سنین عدیدة و مدّة طویلة لیس إلاّٰ نتیجةً لما قامت به الصّدّیقة الطّاهرة فاطمة الزّهراء (ع) من توعیة الجماهیر و إیقاضهم من غفلتهم و سُباتهمه العمیق .

فبعد أن ذاقوا و بال أمرهم و نالوا الأمرَّین من الطُّغمة الظّالمة و الحزب الأموي فلمسوا نتائج خذلان أهل البیت (ع) و ترك ولاءهم و أحسّوا بما کانت الزّهراء (ع) تقول رجعوا إلیٰ رشدهم و انتبهوا من نومهم فجاؤوا إلیٰ عليٍّ یلتمسونه أن یستلم زمام الأمر و یستلّم الحکم و الخلافة و القیادة و المسؤلیّة فأجبروه علیها .

فیالیت أنّ الزّهراء (ع) کانت في الحیاة و تریٰ إنهمال المسلمین علیٰ أمیرالمؤمنین (ع) مبایعین فکان هو الخلیفة الأوّل بنصّ من ﷲ و رسوله و الخلیفة الرّابع حسب قانون الإنتخابات و الإقتراعات و الشّوریٰ و التّصویب فرجع الحقّ إلیٰ نصابه فأمّا الزّبد فیذهب جُفاءً و أمّا ما ینفع النّاس فیمکث في الأرض و هذا ما حصل فعلاً فجاء الحقّ و زهق الباطل و کان لفاطمة (ع) ألفضل الأکبر في ذلك .

لکنّ فاطمة الزّهرآء (ع) لم تسلم من الأذیٰ قي الصّراع مع الظّالمین و في ساحة النّضال ضدّ الجائرین الغاصبین بل إنّها تحمّلت ما تحمّلت من المصائب العظیمة منهم في سبیل هدفها المقدّس و في سبیل الدّفاع عن إمامها أمیرالمؤمنین المظلوم علیه السّلام .

فقد نالوا بحقّها جریمةً بشعةً و أتوا بحقّها ضربةً قاسیةً مؤلمة هي إحراق دارها و إسقاط جنینها المحسن و کسر ضلعها و لطم خدّها و الضّرب بالسّیاط علیٰ یدها و لئن سعت الأیدي الأثیمة بالتّغطیة علیٰ الجریمة .

و لئن اکتفت بعض الأقلام بنقل صورة الحادثة فقط ، کما رسمها النّظام استاذ الجاحظ و نقلها الشّهرستاني في الملل و النّحل و الصّفدي في الوافي بالوفیات و السّیّد حامد حسین في العبقات فیقول :
« نصّ النّبي (ص) علی أنّ الإمام عليٌّ و عیّنه و عرفت الصّحابة ذلك و لکنّ کتمه عمر لأجل أبي بکر ، و إنّ عمر ضرب بطن فاطمة یوم البیعة حتّیٰ ألقت المحسن من بطنها ».

فاکتفت هذه الأقلام بإثبات الصّورة دون تعلیق .

و تبریري لهذه الأقلام هي ظروفها الحرجة الّتي کانت تفرض علیها التّقیّة .

لکنّني أقول : إن کانت جریمة وقحة کهذه تمضي دون محاکمةٍ فأین العدل و الأنصاف یا مسلمین ؟؟!!

و أین حکم القصاص یا مؤمنین ؟؟

ألیس ﷲ یقول في کتابه : ﴿  من قتل نفساً فکأنّما قتل النّاس جمیعاً ﴾ ؟

ثمّ اُوجّه السّؤال إلیٰ أصحاب الضّمائر الحیّة و الوجدان الحرّ من أيّ مذهبٍ کانوا من المذاهب الخمسة و غیرها من أتباع أهل البیت أو من مخالفیهم فأسألهم :

-هل یجوز قتل طفلٍ بريءٍ في رحم اُمّه یا ناس ؟

ثمّ اُوجّه السّؤال إلیٰ جمیع العقلاء و أرباب الوجدان الحرّ و أقول :

هل یجوز عقلاً أن تُعزّي فاطمة بمُصابها بجمع الحطب علیٰ دارها و إحراق الدّار ؟

ثمّ اُوجّه السّؤال و الإستفتاء الفقهي إلیٰ فقهاء المسلمین جمیعاً سواءُ من المذاهب الأربعة أو الزّیدیة أو الأباضیّة و حتّیٰ الإسماعیلیّة فأقول :
ما حکم من یهجم علیٰ دار مسلم مؤمن مهاجر مجاهد تقيٍّ عادل فیحرق علیه داره ؟

و یکسر ضلع زوجته و یقتل طفله و یسقط الجنین ؟؟ أفتونا مأجورین !!

أفتونا یا فقها و أجیبونا من دون أن تُلاحظوا الصّیانة الشّرعیّة الخاصّة لهذا البیت و الإحترام العرفي الخاصّ لهذا البیت و الحرمة الدّینیّة الّتي یمتاز بها أصحاب البیت و القدسیّة الّتي تخصّ أهل البیت علیهم السّلام .

ولئن حاول بعض البسطاء تنزیه الأعداء من هذه الجریمة النّکراء بحجّة عدم علمهم بوجود الزّهراء في الدّار ذلك الاثناء لکنّه من القطعيّ الثّابت أنّ المهاجم کان علیٰ علمٍ بوجود الزّهراء بل أعلَنَ عن تحدّیةِ لها بقوله :

و إن !!!

أجل یقال له : إنّ في الدّار فاطمة . فیقول : و إن !!!

و هل هذا في الصطلاح الفقه و القضاء الشّرعي الإسلامي إلاّٰ التّعمّد بالجنایة ؟

فما حکم التّعمّد بجنایةٍ کهذه یا فقهاء ؟؟؟

أفتونا مأجورین .

بیّنوا لنا حکم ﷲ و القرآن و حکم رسول ﷲ و الإسلام .

قولوا الحق و لاتُهابونا فلا تأخذکم في ﷲ لومة لائم فإنّ ﷲ بصیرُ بالعباد .

بعد ذلك لا بدّ أن أکشف للقاریء سرّاً کان خفیّاً لحدّ الان و هو أنّه لو لا إقدام اولئك علیٰ إحراق بیت فاطمة (ع) لما تجرّاً یزید و إبن زیاد علیٰ إحراق خیام الحسین بن فاطمة (ع) في کربلاء و بکسر ذاك الضّلع رُضّت أضلع في کربلاء ، و أمّا مدیٰ قسوة الجریمة النّکراء و نتائجها السّیئة فنستعرضها معاً قاریء العزیز ، فأمّا مداها فکانت حتّی نهایة الحلبة و لذلك قالت الزّهراء المظلومة (ع) :

« و ﷲ لأدعون علیکما في کلّ صلاةٍ اُصلّیها ».

و أمّا نتائجها فنعرفها ، ممّا أشار إلیه القرآن الکریم في قوله تعالیٰ :

﴿  و لو لم تمسسه نارٌ نورٌ علیٰ نور ﴾

فقد ذکرت في کتاب تفسیر أهل البیت (ع) عند تفسیر هذه الآیة الشّریفة بأسانید صحیحة عن أهل البیت علیهم السّلام أنّه لو لم تمسس النّار الّتي أحرقوا بها دار فاطمة المظلومة (ع) بأذاها محسناً فیسقط عن اُمّه شهیداً مقتولاً بید الغدر و الإثم ، لبقي حیّاً فتکاثرت نسل الزّهراء منه إیضاً کما تکاثرت من الحسنین (ع) و لحصل النّور علیٰ نور منه کما استمرّت الأنوار فاطمیّة من السّلالة و الذّرّیّة الفاطمیّة من الحسنین (ع) .

فعلیٰ هذا الفرض کان یزداد نسل الزّهراء من محسن بمعدّل 30٪ أکثر من العدد الموجود فعلاً من الحسنین (ع) الّذي هو ما یقارب العشرین ملیون فاطميٍّ علیٰ وجه الأرض و الحمدلله ، فعلیٰ تقدیر إنجاب المحسنین منها هذا العدد یبلغ الثّلاثین ملیوناً فعلاً .

هذا عدیٰ ما وجدوا من الذّرّیة الفاطمیة في طول التّاریخ و ماتوا .

و من هنا یتّضح معنیٰ قوله تعالیٰ :
﴿  فمن قتل نفساً فکأنّما قتل النّاس جمیعاً ﴾ فإنّ الّذي قتل محسناً قد قتل ملاییناً من نسله فلیس له إلاّٰ جهنّم خالداً فیها أبداً !!

و أظنّني وُفّقتُ لبیان معنیٰ اُمّ المصیبة بهذا المقدار .

و لهذا جاء في زیارتها المأثورة ما یلي :

یا ممتحنة إمتحنكُﷲ الّذي خلقكِ قبل أن یخلقكِ فوجدك لما امتحنكِ صابرةً …

فسلام ﷲ علیٰ فاطمة اُمّ المصیبة فقد قضت نحبها مظلومة مقهورة صابرة محتسبة غاضبة و إنّ النّبي (ص) قال :

« إنّ ﷲ لیغضب لغضبها »، ثمّ سألتهما فاطمة : « نشدتکما ﷲ ألم تسمعا رسول الّه یقول : و من أسخط فاطمة فقد أسخطي ، قالا نعم سمعناها من رسول ﷲ ؛ قالت فإنّي اُشهد ﷲ و ملائکته أنّکما أسخطتماني و ما أرضیتماني و لئن لقیت النّبي لأشکونکما إلیه ».

إذاً فلا عبرة بقول إبن تیمیة في ( ج:2 ص:169) من کتابه المنهاج : ( أنّ القوم لیسوا معصومین بل هم مع کونهم أولیاء ﷲ و من أهل الجنّة لهم ذنوب یغفرها ﷲ ) إذ أنّﷲیغضب علیٰ من غضبت علیه فاطمة فلا یغفر له الذّنوب ، ثمّ إذا کانوا لیسوا معصومین کما هو الحقّ فما حقّهم أن یغتصبوا الخلافة من الإمام المعصوم عليّ بن أبي طالب و یظلموا الفاطمة المعصومة ؟؟ یابن تیمیّة إذ قال إبن عبّاس :

ما کنتُ أحسب هذا الأمر منحرفاً

عن هاشمٍ ثمّ منهم عن أبي حسنٍ

ألیس أوّل من صلّیٰ لقبلتکم ؟

و أعلم النّاس بالآثار و السّنن ؟

و أقرب النّاس عهداً بالنّبيّ و من

جبریل عونٌ له بالغسل و الکفن

من فیه ما في جمیع النّاس کلّهم

و لیس في النّاس ما فیه من الحسن

من ذا الّذي ردّکم عنه فنعرفه ؟

ها أنّ بیعتکم من أوّل الفتن

 

 

[1]– الفالج : الجمل ذو السّنامین.


نشر في الصفحات 182-162 من كتاب قدیسة الاسلام

اشتراک گذاری :

دیدگاهتان را بنویسید

نشانی ایمیل شما منتشر نخواهد شد. بخش‌های موردنیاز علامت‌گذاری شده‌اند *