کان رسول ﷲ (ص) من أهم صفاته أنّه إهتمّ بتربیة النّاس و الاُمّة الإسلامیّة إهتماماً بالغاً یعلّمهم الکتاب و الحکمة و یزکّیهم و یُرشدهم و یهدیهم .
و قد خرجّت مدرسة رسول ﷲ (ص) التّربویّة رجالُ عظماء و قادة حکماء أمثال عليّ بن أبي طالب و فاطمة الزّهراء و عبدﷲ بن عبّاس و سلمان المحمّدي و أبي ذر الغفاري و المقداد بن أسود و عمّار بن یاسر و حذیفة بن الیمان و بلال بن حمامة و غیرها .
فوثت الصّدّیقة الطّاهرة فاطمة الزّهراء هذه الصّفة من أبیها النّبي (ص) فربّت أولاداً کاملین بارزین جامعین للفضائل و المحامد کلّها .
و الّذي یهمّني الإشارة إلیه هنا هو تربیتها زینب و اُمّ کلثوم و بنت اُختها أمامة و خادمتها فضّة ؛ إذا أنّني سأتحدّث عن الحسنین سلام ﷲ علیهما في عنوان – اُمّ الأئمّة – بعد هذا .
فأمّا تربیتها لفضّة الخادمة کان بحیث ربّتها تربیة قرآنیّة فکانت زیادة علیٰ إلتزامها بعبادات مولاتها و آدابها کما صامت معها ثلاثة أیّام و أفطرت علی ٰ الماء وتصدّقت بقرصها کانت حلیفة القرآن کما روی ذلك عنها أنّها کانت حافظة للقرآن و لا تتکلّم إلاّٰ به سنین طویلة و قصّتها في ذلك مشهورة ، و أمّا أمامة بنت اُختها فقد ربّتها لکی تکون لائقةً للزّواج مع علي (ع) بعدها و أوصت علیّاً بالزّواج معها فکانت لأولادها کما کانت هي حنونة عطوفة رئوفة ورعة تقیّة مدیرة مدبّرة .
و أمّا بناتها اُمّ کلثوم و زینب سلام ﷲ علیهما فلا یسع المجال هنا عن التّحدّث تفصیلاً عنهما و بالأخص عن السّیّدة العقیلة زینب شریکة الحسین (ع) في الجهاد کما أنّ اُمّ کلثوم إیضاً شارکت في الثّورة الحسنیّة بکربلاء و اسرت و سبیت لکن ّزینب و ما أدراك ما زینب ؟ فقد ربّتها فاطمة (ع) اُمّها لتکون نائبة الحسین (ع) و لتکون کافلة الیتامیٰ و الاُساریٰ و لتکون خطیبة الجهاد في الکوفة و الشّام و لولاها لذهبت دماء الشّهداء هدراً فهي الّتي أنتجت منها النّتائج المقصودة فهزّت عرش یزید و بني امیّة و بفضل خطبتها کانت حرکة التّوّابین الّذین تابوا عن خذلانهم للحسین فثاروا مع المختار بن أبي عبید الثّقفي (ق) علیٰ قتلة الحسین فانتقموا منهم و قد قدّمت زینب علیها السلام أولادها عوناً و محمّداً شهداء بین یدي الحسین (ع) یوم عاشوراء في کربلاء فسجّلت لنفسها أروع مثال للتّضحیة و الفداء کلّ ذلك نتیجة لتربیة الزّهراء (ع) .
فهذا الحسین الأبيُّ هو نموذج حیُّ من تربیة فاطمة (ع) فهو سیّد أباة الضّیم الّذي أعلن للبشریّة قائلاً : هیهات منّا الذّلّة یأبیٰﷲ ذلك منّا و رسوله و حجور طابت وطهرت ، فقد صدق الحسین (ع) لأنّ الحجر الّذي تربّیٰ فیه هو حجر فاطمة (ع) الأبیّة الطّاهرة فربّته علیٰ حبّ الکرامة و الإستنکاف من الدّنیّة فلم یبایع لیزید و لم یستسلم للذّل حتّیٰ قضیٰ شهیداً عطشاناً و أعلن للاُمّة الإسلامیّة یوم عاشوراء في کربلاء شعاره الخالد : لا اُعطیکم بیدي إعطاء الذّلیل و لا أقرّ لکم إقرار العبید . و کان یُردّد قائلاً :
إن کان دین محمّد لم یستقم
إلاّٰ بقتلي یا سیوف خذیني
فاستقبل الشّهادة بکلّ شجاعة و رباطة جأش و بکلّ صلابة و ثبات فلا غرو فهو إبن فاطمة (ع) !!
و نموذج آخر لتّربیة الصّدّیقة الطّاهرة الزّکیة هي السّیّدة العقیلة زینب سلام ﷲ علیها فهي الشّجاعة البطلة الّتي تعلّمت من اُمّها الوقوف أمام الطّغاة و إلقاء الخطب الرّنّانة في وجوههم ، فلو لا تربیة الزّهراء (ع) لزینب العقیلة تربیة الشّجاعة و الشّرف و البطولة و البسالة و الکرامة و العزّة ، لما تمکّنت العقیلة و هي في الأسر و قد أصابها مصیبة الطّفّ العظمیٰ الّتي ینهدّ منها أرکان الأبطال فکیف بها و هي بلا ناصر و لا معین و علیٰ عاتقها مسئولیّة صیانة أربع و ثمانین من الأطفال و النّساء أن تقف أمام طاغي الطّغاة یزید اللّعین فتخاطبة أشدّ خطاب و تهدّده فتقول :
أظننت یا یزید حیث أخذت علینا أقطار الأرض و أفاق السّماء فأصبحنا نساق کما تساق الاُساریٰ أنّ بنا علیٰﷲ هواناً و بکَ علیه کرامة و إنّ ذلك لعظم خطرك عنده ؟؟! فشمخت بأنفك و نظرت في عطفك جذلان مسروراً حین رأیت الدّنیا لك مستوسقة و الاُمور متّسقة و حین صفا لك ملکنا و سلطاننا ، مهلاً مهلاً أنسیت قول ﷲ تعالیٰ : ﴿ و لا تحسبنّ الّذین کفروا أنّـما نملي لهم خیراً لأنفسهم إنّـما نـملي لهم لیزدادوا إثـماً و لهم عذاب مهین﴾ .
أمن العدل یابن الطّلقاء تخدیرك حرائرك و إماءك و سوقك بنات رسول ﷲ سبایا ؟؟
إلیٰ أن قالت له :
فو ﷲ ما فریت إلاّٰ جلدك و لا حززت إلاّٰ لحمك و لتردنّ علیٰ رسول ﷲ(ص) بما تحمّلت من سفك دماء ذرّیّته.
إلیٰ أن قالت له :
فکد کیدك و اسع سعیك و ناصب جهدك فو ﷲ لا تمحوّ ذکرنا و لا تمیت وحینا و لا یرخص عنك عارها ، و هل رأیك إلاّٰ فند و أیّامك إلاّٰ عدد و جمعك إلاّٰ بدد ! یوم یُنادي المنادي :
ألا لعنة ﷲ علیٰ الظّالمین .
فهذه الکلمات تنبیء عن شجاعة فاطمیّة عریقة و بسالة هاشمیّة علویّة بین جوانح العقیلة زینب و تنبیء عن تربیة فاطمیّة ناجحة أنتجب کلماتها ثورة شعبیّة علیٰ یزید و إبن زیاد و سائر الطّغاة فقلعت جذورهم و أیقظت الجماهیر المغفّلة من سباتهم و حرّضتهم علیهم و أثبتت أنّ الحقّ مع الحسین الشّهید و أنّ الباطل متمثّل في یزید الکافر الظّالم.
فسلام ﷲ علیٰ العقیلة و علیٰ أمّها الصّدّیقة و لعنة ﷲعلیٰ یزید و جمیع الظّالمین .
و نموذج آخر من التّربیة الفاطمیّة هي جاریتها فضّة النّوبیّة رضوان ﷲ علیها و تتجلّیٰ فیها تربیة مربّیتها سلام ﷲ علیها أکثر من أیّ شخص آخر لأنّ أولاد فاطمة (ع) ربّما یقول القائل إنّهم ورثوا الفضائل من أبیهم أمیرالمؤمنین عليّ بن أبي طالب (ع) لکنّ فضّة لم تکن من ولده و إنّـما حازت الفضائل بفضل تربیة الصّدّیقة الطّاهرة لها !!
و إلیك ما رواه الرّواة بشأنها :
رویٰ صاحب الإصابة في معرفة الصّحابة عن الإمام الصّادق (ع) عن آبائه (ع) إنّ رسول ﷲ (ص) أخدم فاطمة إبنته جاریة إسمها فضّة النّوبیّة و کانت تشاطرها الخدمة . فعلّمها رسول ﷲ (ص) دعاء تدعو به فقالت لها فاطمة : أتعجنین أو تخبزین ؟
فقالت بل أعجن یا سیّدتي و أحتطب ، فذهبت و احتطبت و بیدها حزمة فأرادت حملها فعجزت فدعت بالدّعاء الّذي علّمها (ص) و هو :
فجاء أعرابيُّ کأنّه من أزد شنوءة فحمل الحزمة إلیٰ باب فاطمة (ع) .
ففضّة کانت مستجابة الدّعوة و قد اشترکت مع الزّهراء و أولادها في وفاء النّذر الّذي تحدّث عنه القرآن : ﴿ یوفون بالنّذر و یخافون یوماً کان شرّه مستطیراً و یُطعمون الطّعام علیٰ حبّة مسکیناً و یتیماً و أسیراً إنّما نطعمکم لوجه ﷲ لا نرید منکم جزاءً و لا شکوراً ﴾ فصامت معهم و أفطرت علي الماء و قدّمت قرصها للیتیم و المسکین و الأسیر کما فعلت مولاتها سلام ﷲ علیها ، و کانت لمولاتها نعم العون و النّصیر ، لذلك فحینما أحرقوا باب دارها و عصروها بین الحائط و الباب نریٰ انّ الزّهراء (ع) تنادي :
فقال عمر : شعرة من آل أبي طالب أفقه من عدیٍّ .
و من فضلها و کمالها أنّها کانت بعد استشهاد مولاتها الزّهراء لا تتکلّم مع أحدٍ إلاّٰ بالقرآن فکانت حافظة للقرآن الکریم .
قد رویٰ ذلك أکثر المؤرّخین و المحدّثین ، و قال أبوالقاسم القسري في درّ المنثور في طبقات ربّاب الخدور
(ص:439) :
انقطعتُ في البادیة عن القافلة فوجدت إمرأة فقلت من أنت ؟
فقالت : و قل سلام فسوف تعلمون .
فسلّمت علیها و قلت : ما تصنعین هاهنا ؟
قالت : من یهد ﷲ فلامضلّ له .
فقلت : أمن الجنّ أنت أمن الإنس ؟
قالت : یا بني آدم خذوا زینتکم .
فقلت : من أین أقبلت ؟
قالت : تنادون من مکان بعید .
فقلت : أین تقصدین ؟
قالت : و لله علیٰ النّاس حجّ البیت .
فقلت : متیٰ إنقطعت ؟
قالت : و لقد خلقنا السّماوات و الأرض في ستّة أیّام .
فقلتُ : أتشتهین طعاماً ؟
فقالت : و ما جعلناهم جسداً لا یأکلون الطّعام .
فأطعمتها ثمّ قلت : هرولي و تعجّلي .
فقالت : لا یکلّف ﷲ نفساً إلاّٰ وسعها .
فقلتُ : أردفك ؟
فقالت : لو کان فیها آلهة إلاّٰﷲ لفسدتا !
فنزلتُ فأرکبتها فقالت : سبحان الّذي سخّر لنا هذا و ما کنّا له بـمقرنین .
فلمّا أدرکنا القافلة قلتُ لها : ألك أحد فیها ؟
قالت : یا داوود إنّا جعلناك خلیفة ، و ما محمّد إلاّٰ رسول ، یا یحییٰ خذ الکتاب ، یا موسیٰ لا تخف .
فصحت بهذه الأسماء فإذا بأربعة شباب متوجهّین نحوها ، فقلت من هؤلاء منك ؟
قالت : المال و البنون زینة الحیاة الدّنیا .
فلمّا أتوها قالت : یا أبت استأجره إنّ خیر من إستأجرت القويّ الأمین .
فکافؤني بأشیاء . فقالت : و ﷲ یضاعف لمن یشاء ، فزادوا لي ، فسألتهم عنها فقالوا : هذه اُمّنا فضّة جاریة الزّهراء (ع) ما تکلّمت منذ عشرین سنة إلاّٰ بالقرآن .
نشر في الصفحات 140-134 من كتاب قدیسة الاسلام